الموقع الرسمي للدكتور أحمد بن صالح الزهرانى

ألقوا عصيّكم !

حمل المقال بصيغة (pdf) من هنا

في قصة موسى عليه السلام عبر كثيرة .. ودروس لنبينا صلى الله عليه وسلّم ولأمته من بعده ..

ولهذا تكرر ذكره وذكر أحداث قصته مرات عديدة في القرآن ..

سأتناول هنا إشارة واحدة وردت في قصته عليه السلام مع فرعون وقومه.. الا وهي عصاه ..

هذه العصا التي حملها موسى معه يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى ..

جعلها الله تعالى في يده آية ، وسلّطها على باطل فرعون..

جاء فرعون بقوته وسلطانه وحاشيته وزبانيته وسحَرته .. جيوش من الباطل ، فيها القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الجماهيرية والقوة اللوجستية كما تُسمى الآن .. ومعه السلاح النوعي الذي يريد أن يجابه به هذا النبي الكريم منفرداً أعزلاً إلاّ من عصاه ومن أخيه ..

المشهد مهيب ..

 الجماهير محتشدة لتشجيع السحرة في مغالبتهم لموسى .. الساحر في ظنهم وتصورهم ..

والجيوش تحيط بهم .. 

والسحرة من كل حدب وصوب يتوافدون لساحة الاستعراض في ضحى يوم احتفالي كبير ..

عرَض السحرة على موسى الاختيار في البدء أو التأخر ..

فطلب منهم البدء .. وقَبِل السحرة ذلك لأنّهم يعلمون أنّهم أهل باطل ، والباطل باطل تقدم أو تأخر ، وقد علموا أنّهم أسحر الناس ولن يستطيع ساحر مثلهم مغالبتهم فسواء تقدموا أو تأخروا ..

بينما اختار موسى التأخر لأنّ الغلبة في مثل هذا الموقف ليس بإظهار قوة كل فريق، فإن هذا مما قد تختلف فيه الأنظار وفهم العقول وكذلك المواقف النفسيّة ..

أراد موسى – بتدبير ربه تعالى – أن تكون هزيمة الباطل ليس بالمقايسة والمقارنة، فذلك أمر قد تختلف فيه النظرات والاجتهادات ، وإنما بظهور الحق على الباطل بإزهاقه وقتله ..

جاء السحر بالعصي والحبال لمقارنة سحر موسى المزعوم فإنّ سحره كان بعصاه فكان الواجب عليهم إن يظهروا قدرتهم بنفس الطريقة مع المبالغة في جنس التحوّل الذي رآه الناس من عصا موسى..

وبالفعل كان ذلك كذلك : ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 116].

وكأني بفرعون في هذه اللحظة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة الغرور والارتياح، فالآن لايمكن أن يتبع أحد من الناس هذا الساحر وأخاه بعد أن بان لهم أنّ أمثاله من السحرة يستطيعون فوق ما يستطيع ..

وهنا جاء التوجيه من المدبّر العليم : ﴿أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الأعراف: 117] .

مالذي حصل ؟

﴿أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الشعراء: 45].

ظن فرعون ومن معه أن غاية ما عند موسى أن يأتي بسحر مثله كما كان ردّهم هم عليه : ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ﴾ [طه: 58] 

سحْرٌ من هنا .. وسحر من هناك ؟ فأين المحق منهما ؟ تشويش وتشتيت للجماهير وتضييع لقضية الحق بين هذه الأسحار المتجانسة ..

لكن المفاجأة أنّ تلك العصا الصغيرة فعلت شيئا لا عهد لهم به .. لم تنقلب حية فقط، بل انقضت على حبالهم وعصيهم تلقفها وتبتلعها .. وهذا لا يكون سحراً أبداً ، ولهذا عرف السحرة في أوّل الناس أنّ هذا ليس سحرا فسجدوا وآمنوا ..

وبقية القصة معروفة ..

العصا في يد موسى لها رمزية لكل حق جعله الله في يد المصلح من أتباع الأنبياء ..

والعبر هنا متعددة :

فأكثر المصلحين لا يعرفون قوة الحق الذي أعطاهم الله إياه من قرآن وسنّة وسبيل سلف صالح ، تجد الشخص يعيش عمره حافظا لقرآن تاليا له حافظا للسنة عالما بالشرع قليله أو كثيره .. ثم هو ضعيف جبان منعزل منزوٍ تهوله قوة الباطل وانتفاشته ..كل ما سمع عن ظهور باطل جاء مهرولاً مولولاً يشيع الإحباط والخوف والإرجاف في صفوف المؤمنين ..

مع أن الله وصف كيد الشيطان بالضعف أمام قوة المؤمن .. إذا عرف قيمة العصا التي في يده ..

وهذا الجزع قد يظهر على الداعية والمصلح في صورة شجاعة .. 

أكثر أفعال أهل التكفير والتفجير من جماعات وأحزاب ورجالات تظهر للناس شجاعتها بالانفعال والتهور في مواجهة المجتمعات الرافضة لهم أو المعرضة عنهم، وهذا ينم عن شخصية ضعيفة مهزوزة ، على عكس العالم المطمئن بوعد الله الواثق بقوة ما معه من الحق تراه لا يغير موقفه من الناس أطاعوه أم عصوه ..أقبلوا عليه أم أعرضوا عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلّم : «المُؤمنُ الَّذِي ‌يُخالطُ ‌النَّاس ويَصبرُ عَلى أَذاهُم خَيرٌ مِن الَّذِي لَا ‌يُخالِطُ ‌النَّاسَ ولا يَصبرُ عَلى أذَاهُم».  ففي مخالطة الناس قوة وصبر بعكس المنعزل الجازع الغاضب .

وقال : «لَيْسَ الشَّدِيدُ ‌بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».

فهؤلاء الخارجون عن الدين والملة والقانون في صورة الغضب لله ورسوله يعبرون عن خوف وشك في وعد الله للمؤمنين ولهذا لا يصبرون صبر العلماء .

ومن عبر العصا: أنّ القوة الحقيقية في الحق نفسه ، وإنما تأتي قوة المصلح وحامل الحق ردءا وتبعا، فلا تنفع قوة المؤمن وبسالته وشجاعته إن لم يكن حاملا للحق ، وأسوأ منه من يظن نفسه يحمل الحق وهو إنما ينافح بالباطل كما يفعله المبتدعة من المنتسبين للفرق والجماعات والأحزاب البدعية ..

وهذا يعني أنّ الفضل لله وللحق الذي أنزله وامتن به على العباد .. ولا يحتاج الحق إلا أن يُقدَّم ويُشرح ويوضح دون غبش البدع والنفاق والجهل .. وعند ذلك لا تسل عن قوته وفعله في الباطل وأهل الباطل .

ومن عرف هذا تواضع لله وعرف أنّه لم يكن ليظهر على خصمه أو يوهب النصر لذكائه وقوته هو وإنّما بما معه من الحق وقوته فكلّما كان ألصق به كان أقرب للنجاة والفوز بإذن الله.

ومنها : أنّ كثيراً من الدعاة والمصلحين يعيش دهره حاملا للحق الخامل ، وتجده صاحب إيمان ونصح لأنه لا يعرف حجم المسؤولية المترتبة على الحق الذي خوله الله إياه ..

فإذا كشف الله حقيقة المهمة وحجم المطلوب منها خاف وارتعد وهرب ، ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 10].

هرب موسى لأنّه خاف من منظر الحية ، فقال له ربه إنّ المرسلين لا يخافون، والداعية الذي ينكشف له هول الحقيقة والباطل الذي أمر بمجابهته والحق الذي حُمّله خاف .. فمنهم من يسترجع قوته ويعود إلى حمل عصاه وقرع الباطل به .. وهؤلاء هم أتباع الأنبياء .. ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108] .

ومنهم من يرتكس ويتخلى عن عصاه ويرفض نعمة الله عليه وهذا الذي حكى الله عنه أنّه آتاه آياته ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف: 175-176] .

وآخر القول : إنّ ما نشهده من انتشار للمنكر وشيوع للباطل مرده بالدرجة الأولى إلى ضعف أهل الحق ، وليس القمع أو التحجير أو التأطير حجة لنا، وقد وهبنا الله العصا ، والله يبارك في فعل العبد واجتهاده وإصلاحه بقدر طاقته وإمكانه، فإذا فعل من الممكن غايته ومنتهاه مدّ الله له في المتاح، وزاد الله له رقعة التمكين، كما هو دأب الأنبياء قبلنا ..

دعى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في دار الأرقم مختفيا.. وحوصر في الشعب ثلاث سنوات وطرد من البقاع حتى اختفى في غار لا يسع إلا اثنين ..ثم بلغت أمته المشرقين ..

ودعى يوسف عليه السلام في السجن سنوات .. ثم مهد الله له ملكاً في مصر ..

وبلغ موسى ساحل البحر وقد أحاط به جند فرعون وعندما عرف أن سبل الأرض كلها أغلقت وحبال الأرض كلها قطعت التفت مرة أخرى إلى عصاه وقال: ﴿إنّ معي ربي سيهدين﴾ ..

فألقوا عصيّكم رحمكم الله ..

  


Powered by Froala Editor