
كثيراً ما تكون الحيلة النفسية هي خلق المعوقات أمام تنفيذ المشاريع وتحقيق الأهداف.
وهذه المعوقات قد تكون وهمية بحتة، وقد تكون حقيقة من حيث وجودها، لكنّها غير حقيقة؛ من حيث تصوّرنا لها أو تقديرنا لحجمها وأثرها في إعاقة تحقيق ما نصبو إليه.
والأدهى والأخطر حين تكون هذه العوائق من صنعنا وابتكارنا... أو أن نشارك نحن في تضخيمها وتثبيتها على الواقع كعوائق غير قابلة للتغيير أو صعبة التغيير.
وقد يكون العائق وجودياً كأن يقول: المدير يقف في طريقي .. أو مرضي يمنعني من تحقيق هدفي .. أو كثرة الفتن تمنعني ممن التوبة
وقد يكون عدمياً كأن يقول: لا أملك سيارة أستطيع البحث بها عن عمل.. أو مالاً أبدأ به مشروعي..
هنا يأتي دور المصلح والمربي.. مع الآخرين أو مع نفسه.. لتغيير الواقع، إمّا بكشف حقيقة العائق المتوهّم، وبيان أنّه ليس موجوداً ولا حقيقياً، أو بيان أنّه وإن كان موجوداً إلاّ أنّه لا يشكّل عائقاً..
أو أنّه فعلاً عائق، لكنه ليس مستعصياً.. وأنّه قابل للتجيير أو التحييد..
بعض مقولات التراث تتضمن كنوزاً تربوية لو تم تطويرها وتطبيقها وتوظيفها بشكل أوسع..
وما قلته أعلاه يمكن فهمه واستخلاصه من حادثة وقعت مع الفاروق -رضي الله عنه- إذ استكتب أبو موسى الأشعري نصرانياً فكتب إليه عمر: اعزلْه، و استعملْ بدله حنيفياً، فكتب له أبو موسى: إن من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت، فكتب له عمر: ليس لنا أن نأتمنهم و قد خوّنهم الله، و لا أن نرفعهم و قد وضعهم الله، و لا أن نستنصحهم في الدين و قد وترهم الإسلام، و لا أن نعزّهم و قد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون، فكتب أبو موسى: إن البلد لا يصلح إلاّ به؟
فكتب إليه عمر: "مات النصراني، و السلام".
فقول عمر: "مات النصراني" عبارة مختصرة جداً تؤدي دوراً قوياً في صدم المتلقي الواهم؛ ليكتشف أنّ فيه من الطاقات ولديه من الإمكانات وأمامه من الخيارات أكثر مما تخيّل واعتقد..
كثير منا يعتقد أنه لا يستطيع الركض لمسافة طويلة أو يقفز لمسافة عالية.. لكنه في خضمّ انفعاله مع موقف خوف أو طمع شديد يكتشف أنّه كان قادراً على ذلك، وأنّه فعل ذلك حقيقة..
الواقع الصادم والتذكير به يكشف الزاوية المظلمة في الوعي الإنساني.. تلك الزاوية التي يتعمّد أحياناً ألاّ يفتش فيها..
فيأتي الحدث.. أو التذكير به وكشفه أمام النفس ليعيدها إلى جادة المنطق السليم ..
صدق أمير المؤمنين. وهو صدوق..
فأبو موسى افترض أنّ خياراته محدودة بل مغلقة..
فلفت عمر رضي الله عنه نظره إلى أنّه كان عليه توفير البديل الشرعي، والحجة التي سوّغ بها أبو موسى بقاء النصراني في المهنة غير حقيقية، بدليل أنّه في حالة موت النصراني سيضطر أبو موسى إلى تأهيل البديل الذي يقوم بالأمر..
خصوصاً إذا عرفنا أنّ النصراني إنّما أصبح ماهراً بالاكتساب والتعلم، وليس صفة خلقية يصعب إيجادها..
فكما أمكن أن يكون النصراني حاذقاً فيمكن أن يكون المسلم حاذقاً..
إذاً فالعائق الذي ظنّه أبو موسى لم يكن حقيقياً، وهو أنّ البلد لا يصلح إلاّ به، وقد كشفه عمر -رضي الله عنه- بعبارته الصادمة: مات النصراني!
Powered by Froala Editor