
أمام مناظر الجوع والموت التي تعيشها غزّة هاشم . مناظر الخراب والدمار ومليوني مسلم محاصرين، يحيط بهم الموت من كل جانب .. يُسمع بكاء الأطفال ونوح الثكالى ..
يطيش عقل كل موحد ما زال في قلبه ذرة من إيمان ، أو ذرة ضمير حي لو كان غير مسلم .
في خضم هذه الأحداث المتوالية في غزة منذ عامين تقريبا يوم أن ألقت بها حماس وأخواتها بين فكي عدوّ غاشم مجرم لا يرحم ولا يعرف إلا لغة الدم والقتل .. خدمة لطموحات جماعة الخراب، ومشاريع المجوس ..
مازلنا كل يوم نشاهد ونرى مناظر تقشعر لها الأبدان ويفقد المسلم الصادق الحيّ بسببها مذاق الزاد وطعم النوم ولذة الحياة ..
وكلما رأيت من نفسي العاجزة رغبة في الطعام أو الضحك تذكرت ما فيه إخواننا فتحولت الضحكات إلى صوت باهت لا حياة فيه إنما نجامل به من وجب علينا مجاملته من طفل أو زوج أو والد .
أما الطعام فوالله لا ندري له طعما إنما نتغصّبه تغصبا ..
يدور في خلدي دائما عذرنا المشهور : العجز ... نحن عاجزون ، إذن نحن غير مكلفين وغير محاسبين .. لا والله لا ، لسنا عاجزين !
هكذا نخدّر ضمائرنا ونقتل في نفوسنا أي شعور ينغص علينا معيشتنا لننسى ونتجاهل ما يعيشه إخواننا هناك في غزّة : الغصّة والحشرجة التي لن تنفك عن كل مسلم موحّد أبد الدّهر ..
لسنا عاجزين .. لأنّ العجز ليس له في الحقيقة تعريف محدد في الشرع أو مستوى يصل إليه المسلم معذورا ناجيا أمام الله ..
عدم القدرة على التكليف ليس بالضرورة عجزاً .. العجز الحقيقي أن يكون بينك وبين الممتنع والمحال فراغ ..
هذا الفراغ هو حجة الله علينا ..
تأمل معي : ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: 61-63] .
لم يفلق الله البحر لموسى بدون ضربة العصا .. كان في قدرة الله أن يفلقه بدون فعل موسى ..والعصا ليست سببا مؤثرا في فلق البحر .. لكنها سنة الله .
لأنّ ضرب العصا غاية ما يستطيع موسى أُمر به فأصبح ضرب العصا هو التكليف في حقّه .. عدم القدرة على ضرب البحر بالعصا هو العجز الحقيقي الذي ربّما يعذر به موسى ..
وتأمل معي : ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 24-25] .
ماذا يغني هزّ امراة في الطَّلْق لجذع نخلة في إسقاط الرطب ؟
كان في قدرة الله إسقاط الرطب بدون فعل منها .. لكنه يعلّمنا تعالى ..
ذلك الهزّ الضعيف هو الممكن في حق مريم.. هو المساحة بين الممتنع وبين القدرة.. فكان لزاما عليها أن تفعل ما تستطيع لأنه التكليف في حقها .. ولو لم يكن مؤثراً في سقوط الرطب ..
هل بدأت تتبين لك معاني العجز في حقنا تجاه غزّة ؟؟
كلّ فعل وقول داخل في قدرتنا فنحن مطالبون به وسنُسأل عنه يوم القيامة .. كل حسب مكانه وإمكانه ..
لسنا عاجزين في الحقيقة ..
ليس شرطاً أن نرى صلة سببية بين ما نستطيع وبين رفع الغمة عن غزة .. فذلك إلى الله ..
أما نحن فما زال علينا واجبٌّ ما ..
لسنا عاجزين عن الدعاء ليلنا ونهارنا ..
لسنا عاجزين أن نتذكرهم في كل وقت ونذكّر من حولنا بهم ..
أكاد أجزم أن لو هجم على الأمّة شعور الحزن لإخوانهم والأسى لهم – فقط كحزنهم على خسارة أنديتهم الكروية- ربما كان ذلك الحزن سببا يرحمهم الله به من ظلم الصهاينة ..
وسببا يدفع عنّا العقوبات المعجّلة ..
إنها سنة الله .. والأرض تدور.. والأيّام تُدال بين الناس ..
لسنا عاجزين عن مشاعر قلبية ورغبة جامحة تظهر علينا فيرفع الله بها عنا سخَطه على الأقل.
تأمّل : ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 91-92]
دموعهم الحقيقية كانت دليلاً على العجز الحقيقي الذي يُعذرون به .. فهل أبكانا عجزنا ؟؟
لسنا عاجزين عن الاستغفار ..
ممّ ؟
من العجز لو كنّا كذلك ، فالعجز عن نصرة أنفسنا وإخواننا في واقعنا عقوبة ، على ذنوبنا وغفلتنا عن الله ودينه وشرعه.. فضرب الله قلوبنا بالوَهن .. وجوارحنا بالعَجز ..
إنه عجز ممهّد لنزول العقوبات .. فلا تركنوا إليه ..
ولا ينسيكم مآسي المسلمين ..
فإنّ الله إذا أراد بأمة من الأمم هلاكا هيّا له أسبابه : ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ ..
فاللهم رحمتك بالمسلمين في كل مكان .. في غزة والسودان واليمن وسوريا والعراق والصين وفي كل أرض يُهان فيه مسلم أو يُستباح منه دمه أو ماله أو عرضه ..
اللهم ارفع عنهم البلاء .. اللهم أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ..
اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزم الصهاينة ومن عاونهم وأيدهم ورضي بظلمهم ..
نسأل الله تعالى أن يحفظ بلاد المسلمين عامة وبلدنا هذا خاصّة وأن يحفظ لنا قادتنا وولاة أمورنا وأن يوفقهم ويعينهم على ما فيه خير هذه الأمّة وصلاح حالها ..
وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن لا يؤاخذنا بظلمنا ولا تقصيرنا ولا عجزنا ولا بما يفعله السفهاء منّا .. اللهم آمين .
Powered by Froala Editor