
سقط نظام النصيري الأسد في سوريا بعد "ثورة" استمرت 14 عاما تقريبا ، وكان سقوطا بل انهيارا سريعا في أيام معدودة ، وهنا برز إلى السطح آلاف المحللين لأسباب هذا السقوط ، والعجيب أنّ كلّ واحد ذهب يحلل من منطلق رؤيته الخاصّة .. وكأنهم كانوا حاضرين في الغرف المغلقة مع الثوار أو مع رؤساء الدول أو غيرهم ممن كان فاعلا في الأحداث .
يهمني هنا أن أبين بعض النقاط سريعا :
أولاً: كثيرون نسبوا الأحداث وتدبيرها لأمريكا ، وبعضهم لتركيا، وبعضهم لدول عربية، وبعضهم للثوار والمجاهدين .. وما أقل من نسب التدبير لربّ البريّات ، الذي بيده مقاليد السماوات، اليوم كنت أقرأ في سورة القمر ..اقرأ ما قاله الله عن نوح: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ [القمر: 10-16] . الله أكبر .. القوانين والنواميس تحركت بأمر مدبّرها لنصرة المظلوم ..
الا ترون يد الله في كل ما يجري .. رفع السوريون والمظلومين أكفهم إلى الله إننا مغلوبون فانتصر .. إن السنوات التي قضاها السوريون في سجن عائلة الأسد قليلة في عمر الزمن والدول والشعوب، وجاءهم النصر بأسرع وبألطف ما يمكن تصوره عن انهيار أنظمة حاكمة دموية مدعومة ..
قالوا تركيا دعمت .. روسيا تخلت .. إسرائيل ساعدت ..
قلنا : ومن ربّ هؤلاء ..
من الذي سلط الغرب وأوكرانيا لتجعل الروس بالكاد يتحسسون رقابهم ؟
ومن الّذي أذلّ أردوغان بالمعارضة التي استغلت مشكلة اللاجئين لتجييش الشعب التركي ضدّه وتجعله يتحرك وبقوة هذه المرة لحل المشكلة ؟
ومن الذي هزم بايدن وأوباما وعصابته وجاء بدونالد ترامب لسدة البيت الأبيض ويعيد تموضع أمريكا من القضيّة ؟
ومن الذي قدر للسنوار وجماعته الفاشلة أن ترتكب حماقة 7 أكتوبر لتتسبب دون أن تشعر بكارثة للشعب الفلسطيني لكنها أدت في نهاية المطاف إلى تدمير حزب اللات ومن بعده مجوس إيران ؟
ومن الذي جاء أصلا بنتنياهو لرئاسة وزراء إسرائيل ليرتكب ما ارتكبه ؟
كل ما حدث من قبل ومن بعد هو تدبير الربّ سبحانه وتعالى ، الذي جاء بيوسف من السجن إلى ملك مصر فقال يوسف واصفا ذلك: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100] . وقال قبلها: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76] .
جاء الله بالنصر للسوريين بل للعرب أكتعين وللمسلمين أجمعين بألطف ما يكون بعد أن هيا له أسبابه ، وبعد أن وطّن القلوب والنفوس وأعادها إلى الله وعرفت ربها وراجعت أسباب تسليط الظالمين عليهم ، كما قال الحسن البصري لمن جاء يشكو الحجاج: « إن الحجاج عقوبة جاءت من السماء، أفتستقبل عقوبة الله بالسيف؟. ولكن استغفروا وادعوا وتضرعوا».
نعم لكل ما ذكر من العوامل يد في النتيجة وهي أسباب ولكن من سبّبها ودبّرها حتى تلاءمت وتناغمت وهيأت لهذه النتيجة ؟ الله ولا غير الله .
ثانيا: ما أعظم التوحيد وأهل التوحيد مهما بلغ بهم العصيان واشتطّ لكنهم يعلمون أن لا إله إلا الله وأنه لاربّ سواه ، أهل سوريا منذ اندلاع الأحداث كلمتهم "ما لنا غيرك يا الله" ولما سقط المجرم انطلقت أصواتهم بالتكبير وحمدالله لا سواه ، حتى غير المسلمين نطقوا بها .. لم يحمدوا طائفة ولا ثائرا ولا رئيسا مهما كان فضله حتى تركيا وأمريكا والدول العربية أسوتهم في ذلك أمّهم الصديقة بنت الصديق لما نزلت براءتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أبيها وأمها قالت لها أمّها قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: "لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله".
وهذا من أسباب تنزل النصر والرحمة حتى على غير المسلمين إذا اضطروا إلى الله ولجؤوا إليه : ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62] .
فرق بينهم وبين مشركي العرب المعاصرين ومجوسهم الذين ما إن يصيبهم حسنة ولا سيئة إلا نسبوها لآل البيت أو لمعظميهم وينادون ويستغيثون تارة بالزهراء وتارة بعلي وتارة بالحسن وتارة بالعباس ، نعوذ بالله منهم ومن شركهم .
ثالثا: ماحدث للسوريين ليس ضمانة للمستقبل فالله أعلم بما يكون ، ولكن لا يكون الواحد مسيئا ظنه بالله، فكثيرون يطلقون عبارات من مثل :الأمر لم ينته .. الغرب لن يتركهم .. أمريكا لن تتركهم ..الخ ، ونسي هؤلاء كما أشرت أنّ المدبر هو الله ، فالله سيرهم ودبر أمرهم رغم أنوفهم ، تذكروا أنّ فرعون الذي قتل بني إسرائيل خوفا من ظهور نبي يزيل ملكه تذكروا أنّه ربّى هذا النّبيّ في بيته ؟ وأين تدبير ومكر الخلق من تدبير الله وقوته ؟
فالمؤمن يحسن الظن بالله ويتمنى الخير ويتفاءل بما يكون من فتح ونصر ، ويترك المستقبل لله ولا يغرق في تحليلات القنوات وغيرها فغالبهم مساطيل مرتزقة يأكلون من كلامهم فكلما تكلموا أكثر كسبوا متابعات ومشاهدات والإثارة هي مقصدهم لا الحقيقة .
رابعاً: ما دمّر الأسد وعائلته ونظامه ليس بعدهم عن الدين ، وهو سبب بلا ريب، لكن الأعظم من ذلك هو الظّلم والبغي ، وهي المحرمات الكبرى معجلة العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، وكم من دولة ونظام مشرك كافر أدامه الله بالعدل، وكم نظام وملك ظالم أزاله الله بظلمه ، كما قال ابن تيمية رحمه الله: « ان الله يُقيم الدولة العادلة وان كَانَت كَافِرَة وَلَا يُقيم الظالمة وان كَانَت مسلمة وَيُقَال الدُّنْيَا تدوم مَعَ الْعدْل وَالْكفْر وَلَا تدوم مَعَ الظُّلم والاسلام ».
وهذا كما هو في الدول والمجتمعات فهو كذلك في الأفراد والمؤسسات والتجمعات ولو كانت يسيرة ، بل ظلم العبد للعبد مؤذن بهلاكه وانتقام الله منه، لأن العدل ميزان قدري وليس شرعيا فقط، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7-9] . فالله تعالى خلق الدنيا واقامها ماديا ومعنويا على موازين العدل في كل شيء، فالعبث بهذه الموازين يؤذن بالخراب . والله لا يحب من يعبث في ملكه ويغير خلقه في الأفراد والمجتمعات على حد سواء قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 85] .
خامساً: قد يثور سؤال من مثل : لماذا انتصر السوريون بينما مازالت فلسطين وغيرها من آلام المسلمين كما هي ؟ فالجواب أولا وآخر أنّ هذا شيء يقدر الله أسبابه ، وقد يتأخر النصر لسببين : الأول غيبٌ لا يعلمه الخلق ولم يُكَلّفوا به لأنّه تقدير وتدبير الرب تعالى .
والسبب الثاني ما يتعلق بالخلق، فلينظر كم سبب من أسباب تأخر النصر في كل حالة ستجدها ماثلة ، من معصية الله ، والاعتماد على الخلق، ومخالفة الشرع في الوسائل والأسباب ، وغير ذلك مما يعرفه العلماء ويصدّ عنه أغلب الناس لأنهم لا يريدون سماع الحقيقة للأسف الشديد، وواجب المؤمنين أن يبذلوا كل أسباب تنزّل النصر التي بأيديهم لينالوا رحمة الله وفضله، لأنّهم إذا فرطوا فيها وأعرضوا عنها وكلوا أنفسهم لعدل الله والله لن يَتِرهم ولن يتركهم لكن يطول عليهم البلاء ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 165] .
سادساً: وهنا تنبيه مهم كذلك ، إذ يخلط الكثيرون بين الجهاد الشرعي الذي له شروطه ومقوماته، وبين دفع الصائل في الإسلام، فإن دفع الصائل ورد العدوان لا يُشترط فيه إخلاص ولا احتساب ولا صلاح المُدافع عن عرضه وأرضه ، فهذا أمر مشترك بين كل الناس مؤمنهم وكافرهم، والله ينصر المظلوم ولو كان كافرا، وما حصل في سوريا ليس جهادا بالمعنى الشرعي ، وإنما هو قتال لدفع الصائل المجرم وهذا مشروع من بابين كان هذا أولهما، ولهذا أحسن المقاتلون إذ سموها "ردّ العدوان" وهذا إسقاط وتوصيف مهم للحاصل، اهتمت به كل الدول المراقبة، لمعرفة توجّه ونوايا هؤلاء الثوار، ومن اختاره كان موفقا إن كانت هذه نيته فعلا. والثاني: أنّه لا يتصور أن يكون هناك مفسدة أشد من الواقع ، فالقتل والإبادة وانهيار البلاد وتقسيمها وتسليمها للمجوس كان قاب قوسين أو أدنى ، فهذا القتال إن لم ينتج عنه مصلحة فلا مفسدة فيه أعظم من الواقع في سوريا. ولا يعني هذا أن لا تكون للمقاتل نية حسنة فيما عند الله فهذا خير وخير، وإنّ/ا أتحدث عن الحد الأدنى .
لماذا أقول هذا : لأنّ القتال لو كان تحت راية الجهاد الشرعي فهذا يبطله لأنه يفتقر إلى شروطه ومقوماته من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ لازم هذا أن يكون أمد وحدود القتال ممتدة لخارج سوريا، وهذا يعني عودة رايات الدواعش والقاعدة الذين يوجد منهم كثير مداخلون للزاحفين وهؤلاء سيكون على الدولة السورية البدء بإذابتهم إن شاؤوا أو طردهم وتسليمهم لبلدانهم وأوّلهم السعوديون لأنّهم أهل فتنة لا جهاد، وسيجرّون سوريا لقتال داخلي أو تكون سوريا منطلقا لهجمات الخوارج على الدول المجاورة وهذا ما لا يحب أحد أن يكون لأنّه سيفقد هذا النصر قيمته السياسيّة وهي أهم وأعظم من النصر العسكري . ولهم في أفغانستان عبرة.
فقد رأينا أفغانستان في أوّل استيلاء طالبان على السلطة وأول من اعترف بها السعودية ، لكن الأحمق ملا عمر بدلا من الانخراط في العمل السياسي وبناء الدولة الحديثة راح بتحالفه مع كلاب النار وحمايته لابن لادن والظواهري وجماعتهما يدخل أفغانستان في حروب لا نهاية لها وخسر الأفغان بسبب ذلك دهرا طويلا وأرواحا كثيرة وأموالا وخسروا قبل ذلك ثقة العرب والدول فيهم .
وقد رأينا جميعا كلبا من كلاب النار يتوعّد ويبشر بدخول مكة والمدينة فاتحا مكبرا وهذا تكفير صريح للسعودية وأهلها وحكامها ، ورغم ثقتي أنّ الكلب لن يعدو قدْره ولم يُسمع نباحه لكن هذا مؤشر سلبي في انتصار السوريين وناعق شؤم إن لم يتداركوه.
سابعاً: سؤال آخر : أليس هذا دليلاً على صحة قول من أباح الثورات وأوجبها إنكارا لظلم الظالمين وإقامة لشريعة رب العالمين ؟ وإذا كان ليس كذلك فكيف تفرحون بشيء مخالف للشريعة ؟ وقد أنكرتم جوازها واتهمتم الثوار بالخروج والفوضى ؟
والجواب : أنّ هذه الثورات لو أدّت لا أقول إلى تحرر سوريا؛ بل لو أدت إلى قيام دولة الإسلام على الأرض كلها وسقوط إسرائيل ودول الغرب كلها لما تغيّر حكمها الشّرعي في دين الله وأنّها حرام وعبث ومخالف للسنّة.
فأحكام الشريعة لا تٌبنى على القدر الذي يرتّبه الله ويقدره، وإنما نحن متعبدون بالأمر والنهي الشّرعيين ، وقد تقرّر في الشرع أنّ القدر ليس حجّة على الشّرع ، ومثال ذلك لتتضح الصورة : لو كان ثمّ شخص مدمن للمخدرات آذى الناس أو بغيّ تسببت في إفساد الشباب هل يجوز لأحد منا أن يقتل هذه أو ذاك ؟ الجواب بلاشك : لا ، لأنّ حكمهما في الإسلام ليس القتل أصلا، ولو كان حكمهما لما جاز لأفراد الناس أن يستوفوا الحدود لأن ذلك مهمة الدولة .
هذا امتثال الشريعة ، أما لو قدّر الله أن شخصاً قتل المدمن مثلا فهذا قدر الله يُحمد ويُشكر وللمؤمن أن يفرح بهلاك المفسد الّذي لم يكن له في هلاكه يد، فهو هنا ممتثل للشرع في الانتهاء عن قتله، ومؤمن بالقدر بحمدالله على قدره الذي أجراه الله على يد شخص آخر . وهذا ما شرَحَتْه قصة موسى والخضر في سورة الكهف لمن عقلها وتدبرها . وقد بينته أكثر في مقال آخر بعنوان "المظاهرات والثورات"
على أنّ الوضع في سوريا أشنع وأعظم لأنّ حاكمها ونظامها كان كافرا بإجماع المسلمين ، وبقي فقط تقدير المصلحة والمفسدة وهذا شأن كان خاصا بأهل سوريا الذين اجتهدوا فقدروا فأخطؤوا والله يغفر لهم ما تسببوا به من فظائع للسوريين ربما لم يسمع بها التاريخ المعاصر ولا القديم . مع أني أظن أنّه لولا دخول جماعة الفساد والإفساد التي تسمي نفسها القاعدة والدواعش إلى سوريا ربما – أقول : ربما- لم يكن للأسد حجة في استدعاء روسيا وإيران ولكن الله هكذا شاء ولا رادّ لقضائه فله الحمد من قبل ومن بعد . وصلى الله على نبينا محمد .
Powered by Froala Editor