
المكان : أرض المحشر
الزمان : يوم القيامة .
الخلق كلهم على أرض واحدة ، مليارات من البشر، معهم الجن والدواب، على أرض تضيق بهم، تتلاصق الأجساد، ويستعر الحر بسبب دنو الشمس من الخلائق، حتى يصير العرق أحواضا يلجم بعضهم إلجاما، تضيق الأنفاس، وتشخص الأبصار، وتضطرب قلوبهم في أجوافهم لا تستقر من شدة الفزع والخوف والترقّب ..
لا أحد يدري ما الذي يكون وما الذي سيكون، الأعداد هائلة مد البصر، والقوى خائرة، والعقول حائرة ..
ثم يعود العقل فيبصر ماهو فيه .. نعم هو هذا اليوم الذي كنا نوعد .. هذا يوم القيامة ، فمن صاك وجهه، ومن لاطم، ومن صائح، {يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُون}.
يجتمع كبار الناس .. أين نذهب ؟ ومن نقصد ؟ وكيف السبيل للخروج من هذا الموقف المهول ؟
وإذ هم في هذا النقاش يلوح لهم آدم عليه السلام فيأتونه فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح .. وهكذا مع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى جتى يصلون إلى نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء. وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ ، قال صلى الله عليه وسلم: "فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي. ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي. ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك. سل تعطه. اشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: يا رب! أمتي. أمتي. فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك، من لا حساب عليه الأيمن من أبواب الجنة. وهو شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب .." الحديث .
هذا اليوم هو أخطر وأعظم يوم عرفته أو ستعرفه الخلائق لأنّ الله تعالى لم ولن يغضب مثل غضبه يومئذ ..
هذا الموقف العصيب الذي يعم الخلق كلهم كان سيد الموقف فيه هو النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعرفه الجميع ، لكن الذي نغفل عنه هو العصى التي أعطاه الله وبها أطفأ غضب الرّب تعالى وبها استنزل رحمته وأذن بفصل القضاء وأمر لأهل الجنة بالدخول ..
إنّه السجود .. قال : " فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي. ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي".. هو هذا إذن ، السجود أعظم منزلة وحالة يكون فيها العبد قريبا إلى ربه .. ولأن الموقف لم يمر بالخلق مثله احتيج إلى شيء يناسبه ، سيفتح الله عليه ويلهمه من محامد الله وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبله.
إذا كانت السجود والثناء على الله بهذه المنزلة من تفريج أعظم كرب وأعظم هم وأعظم ضيق عرفته أو ستعرفه البشرية، فكيف تعجز صلواتنا بسجودها أن تفرج عنا ما نحن فيه ؟
لأنها صلاة بالمعنى اللغوي فقط .. صلاة لا روح فيها ولا يقين ولا حب ولا خضوع .
وهذا هو سرّ السلف "الـمُعلَن"، الذي به طابت حياتهم ونفوسهم، وبه فرجوا الهموم، ونفسوا الكروب، وبه علت هممهم وسمقت أخلاقهم، وبه زكت أعمالهم وذرياتهم ..
وكيف تكون الصلاة روحاً ؟
حين نتعلم الثناء على الله ..
نعم ، نحن نتعلم ونعلم كل شيء، التجارات والعلوم الدنيوية، والتقنيات والآلات، ونتعلم الأدب والشعر، نتعلم كيف نثني على الملوك والأمراء ، وكيف نفخر بالآباء والأمهات، وكيف نمدح الحبيب ونتغزل في محاسنه، لكني على يقين أنّه أندر من العيوق الأحمر – كما يقال- أن تجد من يتعلم الثناء على الله ..
رأينا كيف سيفتح الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم محامد تناسب ذلك الموقف ..
ونحن كذلك لابد أن نتعلم كيف نثني على الله ونمدحه ونحمده بالمحامد، وهي ما تضمنته أسماء الله تعالى وصفاته من المعاني ..
القرآن مليء بهذا .. والسنة وأدعية السنة كذلك ، لابد من أن نفرغ وقتا لنتعلم كيف نستجلب ما عند الله من الخير والرحمة بما علّمناه هو نفسه عن نفسه في القرآن وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق به وأتقاهم له وأقربهم إليه .
وإذا تعلمناها وضعناها موضعها اللائق بها.. ولا محل ومكان لائقا بتلك المحامد كما هو في السجود حيث القرب من الله والخضوع وذلة العبودية والانكسار بين يديه والتبرؤ من كل أحد وكل شيء إليه تعالى وحده ..
فإذا اجتمع في حال العبد حسن الثناء على ربه وحسن المكان منه تعالى فلا تسل عن الأعطيات والهبات وتفريج الكربات ..
وقد يعظم الهم والكرب ، أو تعظم الأمنيات ويرتفع الطموح .. فنحتاج إلى الطرق الطويل والكثير حتى يُفتح لنا الباب .. لأن الله تعالى يحبّ سماع صوت عبده باكيا شاكيا داعيا راغبا راهبا ولا يمل حتى يمل العبد الجاهل المسكين فيصرفه الشيطان عن أعظم مقامات العبودية .. لأنه متعلق بالحسّ وتقديره هو لنفسه ولا يعلق الأمر بربه وتدبيره له ..
قال ربيعة بن كعب الأسلمي: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سَل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة! قال: أوَ غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود"..
طموح ربيعة لم يتوقف عند النجاة من النار أو دخول الجنة ، بل أراد شيئا أعظم من ذلك وهو مرافقته صلى الله عليه وسلم في الجنة .. فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتسبب إلى ذلك – مع دعاء النبي له – بكثرة السجود .. أي كثرة الصلاة ..
فكثرة السجود محبوبة إلى الله تعالى .. بل هي الأحب، سأل ثوبان النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله فقال : " عليك بكثرة السجود لله. فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة. وحط عنك بها خطيئة"، والمقصود طبعا كثرة الصلاة ..
وكان صلى الله عليه وسلم يقول : "جعلت قرة عيني في الصلاة" فما معنى قرة العين؟
قرة العين كناية عن الفرح والسرور، والفوز بالبغية، إما من "القَر" بفتح القاف بمعنى القرار والثبات؛ لأن العين بالنظر إلى المحبوب تقر وتطمئن، ولا تلتفت إلى جانب آخر، وكذلك في حال الفرح والسرور تسكن في مكانها، وإما من "القُر" بالضم بمعنى البرد، وبرد العين ولذتها في مشاهدة المحبوب والفوز بالبغية، يقال:أقر الله دمعتك، فإن دمعة الفرح باردة ولهذا يقال: قرة العين للولد.
ومن كانت قرة عينه الصلاة أكثر منها ..
وفي حال الفزع والكرب والضيق لا شيء أنجى للمكروب من الصلاة .. ففيها فرار المخلوق إلى الخالق الذي بيده مقاليد كل شيء ..
خزائن العباد وقلوبهم مفاتحها بيد خالقها .. فأذا أغلقوا دونك خزائنهم أو قلوبهم فاللجأ إلى مالك مفاتيحها .. الذي يشرعها لك وإن رغمت أنوفهم ..
مدافعة المكروه في البدن والمال والولد لا تكون بأفضل من الصلاة، كما قال تعالى : {واستعينوا بالصبر والصلاة}. أي الإكثار منها ..ولو ركعات خفيفات ، بل هي أولى من التطويل بالقرآن..
وفي فرقان الأرض يوم بدر اليوم الذي دحر الله فيه الكفر حتى قيام الساعة قال علي رضي الله عنه، قال: "لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي، ويبكي، حتى أصبح"، مع أنّه موعود بالنصر من الله تعالى ، وكان يقول في دعائه :" اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم آت ما وعدتني". لكن المواقف العظيمة تحتاج إلى صلاة تكافئها ..
خلاصة المقال: أعظم سبب لكل مطلوب هو الصلاة .. لكن إذا توفر فيها الروح بتعلم الثناء على الله فيها كما ينبغي له .. وبالإكثار منها تحقيقا لكثرة السجود المطلوبة ..
Powered by Froala Editor