الموقع الرسمي للدكتور أحمد بن صالح الزهرانى

الصحوة الإسلامية.. قليل من الخلاف لا يضرّ

لم تكن الصحوة شيئا واحدا محدّد الشكل والمضمون والصورة حتى يمكن   تصويب حكم أحد عليها إمّا بالمدح والثناء أو بالذمّ والسخط.

حديث كثير كان وما زال يدور حول الصحوة، خصوم ومنددون بعضهم قدماء وبعضهم منقلبون عليها، ومقابل هؤلاء مدافعون عنها سواء بتعصب مطلق أو بموضوعية .

بعض الخلاف جوهري تبرز فيه المضادّة المطلقة بين مشروعين : أحدهما شرعي والآخر علماني .

وبعض الخلاف لو دققناه وجدناه غير حقيقي، بين مدافع عنها لجوانب إيجابية رآها فيها، وبين مهاجم لها لجوانب سلبية رآها، ولعل كل واحد من الاتجاهين لو دقق وجد نفسه يتفق مع مخالفه في الجملة .

والحقيقة أنّ المراقب لكل هذا الضجيج الفكري والثقافي والسياسي يرى أنّه لا يوجد فهم حقيقي للصحوة ماهي، وما هو تعريفها عند من يدافع أو يهاجم ، وما هو تصوّره حتى يمكن تقييم موقفه منها من حيث الإنصاف والموضوعية أو المغالاة أو الإجحاف.

التصور والمفهوم

الصحوة كمفهوم نريد أن نشير إليه فيما بعد يتكون من ثلاثة عناصر : الأوّل :عنصر الزمن، الثاني: عنصر البشر، الثالث : عنصر القيم .

فهي إذن مرحلة زمنية مختلف في تحديد بدايتها لكنها في المتفق تشمل الخمسين سنة الأخيرة، وتعود جذوتها الأولى إلى ما بعد سقوط الدولة العثمانية، وفي هذه المرحلة الزمنية نشأ حراك دعوي ديني اتخذ أشكالاً عدة وأساليب مختلفة، وكانت الدعوة في الجملة للإسلام والعودة إلى أمجاده المعنوية أو الحسية أو كليهما.

العنصر البشري في هذه المرحلة تشكل من علماء دين ومن أحزاب أنشأت لأجل استعادة أمجاد الخلافة الإسلامية، وأحزاب أخرى تأسست على أساس علماني إمّا قومي أو اشتراكي أو رأسمالي أو غير ذلك، والكل من هؤلاء يدعي أنّه أولى بالاتباع وأنّ تعاليمه ومفاهيمه ومقاصده هي التي ستعيد للأمة أمجادها .

أمّا القيم والرؤى فتباينت تباينا شديدا من أقصى اليمين ويمثله الجماعات والأحزاب التي نصبت نفسها ممثلا وحيدا للإسلام وكفرت من لم يتبعها ، إلى أقصى اليسار ويمثله مفكرون وأحزاب وسياسيون لا يقيمون لأي قيمة أو مبدأ وزناً، إمّا على طريقة البراجماتية السياسية أو على طريقة الملاحدة .

بطبيعة الحال لا يُفهم من هذا أنّ كل مرحلة من مراحل الصحوة على امتدادها الزمني شهدت كل هذا الخليط وإنّما المقصود أنّ هذه هي المكونات ، أمّا زمن الظهور أو القوة أو عكس ذلك فهو متفاوت من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر

ورغم أنّ زمن الصحوة يطلق على السنوات الأربعين الأخيرة والتي شهدت نموا قويا للإسلام والدعوة إليه في كل أرجاء العالم الإسلامي وأثر ذلك بطبيعة الحال في العالم كلّه، ونسبة المصطلح ملصق بالمكون الذي كان له التأثير الأكبر وهو المكوّن الإسلامي بكل أطيافه إلاّ أنّ هذا المكون لم يكن ليكسب هذه الصفة وينسب إليه هذا الزمن إلاّ بسبب المكونات الأخرى الّتي أدّى الخلاف معها أو التوافق إلى اكتساب هذه الفترة الحرجة من التاريخ المعاصر هذا الزخم والاهتمام أثناء وبعد .

فمصطلح الصحوة في نهاية المطاف يطلق على حركة الرجوع إلى الإسلام وشريعة الإسلام ونبذ كل الأفكار التي كان سائدة وقوية ومتحكمة في الفترة التي سبقته.

وكان هذا الرجوع قويا ملحوظا شدّ انتباه العالم كله بين متخوف منه على مشاريعه الخاصة في بلاد العرب بالذات، وبين مستبشر به وجذلان يرى فيه خلاص الأمّة ورجوع مجدها .

وعندما نسمع من يذمّ هذه الفترة أو يمدحها ويثني عليها فإنّ هذا الذم أو المدح لا يجب أن ينظر إلى تقييمه ومصداقيته إلاّ بالنظر إلى الزاوية التي ينظر منها المتكلم عن تلك الفترة.

ليس من الموضوعية الحكم المطلق على خمسة عقود من الزمن فقط بالنظر لجزء من هذه الفترة أو لأشخاص كان لهم دور أو غير ذلك.

في هذه الفترة عاشت ووجدت الشخصيات الفذة التي كان لبعضها إسهام ومشاركة في صناعة أو دعم المحتوى الشرعي، منهم الملوك والسياسيون ومنهم العلماء ومنهم رموز اجتماعية واقتصادية .

وفي هذه الفترة كذلك شخصيات أفسدت الديانة والملة وعاثت في الشريعة تحريفا وغلوا ومارست الإرهاب بكل أنواعه .

وفيها برزت الجماعات الحزبية والتيارات الفكرية من إخوان وسرورية وتبليغ وغيرها.

وفيها كذلك كانت القاعدة وداعش وحركة الشباب الصومالية وغيرها من جماعات العنف والتغيير المسلح الذي سموه جهادا .

وفيها كذلك برزت القيم الإسلامية وظهرت ظهورا بارزا من صلاة وصيام وديانة وتمسك بالأخلاق والحجاب الشرعي للمرأة وقيم الحياء وغيرها .

وعليه فإن كل متكلم يمدح وأو يذم فهو في الحقيقة ينطلق من العامل المؤثر الذي جذبه ولفت انتباهه أو أثر عليه كفرد أو توجّه.

فالليبرالي والعلماني وضعاف القلوب من مرضى الشهوات يبعضون الصحوة ويذمونها لأنّها تمثل لهم العائق الذي أعاق وأوقف ومنع القيم الليبرالية ووأدها أو أضعفها جدا، ومنع أصحاب الشهوات ومرضى القلوب من المجاهرة بالمعاصي والاستعلان بها أو على الأقل إن حدث ذلك فإنّه مما يُخجل منه ويُخشى من التهمة به لأنّ المزاج العام في المجتمع يقف من ذلك موقف الريبة والمنابذة . ليس تدينا وخوفا من الله بالدرجة الأولى وإنّما هو بسبب المزاج الّذي شكلته الصحوة وجعلت الجمهور يعتنقه ويمارسه بشعور أو بدون شعور ، بقناعة أو بدون قناعة .

المتدينون والعلماء والدعاة يمدحون الصحوة ويدافعون عنها لأنّها تشكل في نظرهم الحياة الإسلامية التي ينشدونها ويمثل لهم نصرا على قيم التغريب والحداثة ، وتمثل لهم كذلك امتثال أمر الله وما يعنيه ذلك من عموم الخير والبركات ودفع النقم والعذاب عن الأمّة .

سياسيون وأمنيون كذلك لهم مواقف متباينة، بعضهم يراها وبالاً على الأمة بسبب ما أنتجته من أفكار التكفير للمجتمع أو الدول والعزلة عن المجتمع ومن ثم استباحة القتال والتخريب في بلاد المسلمين واستباحة الدماء والأموال .

كذلك كثير من التجار والاقتصاديين يرى في الصحوة وقيم التدين عوائق في طريق التكسب من المصادر التي تحرمها الشريعة أو فيها خلاف .

ومثلهم كذلك أهل الفن وشركاته ومشاريعه شكلت الصحوة أيضا عائقا في طريق نموّ هذه الاتجاهات الربحية منها وغير الربحية .

هذه اتجاهات عامة وهناك مواقف كثيرة فردية أو عامة يمكن ملاحظتها من الصحوة وفترة الصحوة، وإنّما اردت بيان أنّ الحكم العام على الصحوة بالمدح والذم لا يصلح إلاّ ببيان المحترزات وإلاّ وقعنا في ذمّ أنفسنا ونحن لا نشعر .

فعلى سبيل المثال من يذم الصحوة بإطلاق يقع في ذمّ الصلاة والصوم والعفاف وغيرها من قيم الإسلام والسنة التي علا شأنها في فترة الصحوة، وهذا لا يقول به مسلم

ومن يمدحها بإطلاق يمدح قيم التخريب والتكفير والجماعات الإرهابية وهذا لا يقول به مؤمن أو عاقل أصلا .

ومن المقبول أحيانا أن نوضّح تصورنا للصحوة ومفهومنا لها قبل الحكم عليها فحينئذ قد يقبل الحكم المطلق لأنّه تم تقييده ببيان التصوّر له .

من صنع الصحوة ؟

ينظر الكثيرون إلى الصحوة ويحاكمونها على أنّها فعل بشريٌ بالدرجة الأولى، أي أنّه جاء ثمرة العمل والاجتهاد من قبل علماء المسلمين والدعاة إلى الله والجماعات والأحزاب الإسلامية.

وهذه النظرة هي الغالبة على الجماهير المتعاطفة مع الإسلام، ولهذا يزعم كل طرف أنّه هو الذي صنع الصحوة، خاصة الجماعات الكبرى وعلى رأسهم الإخوان المسلمون ورموزهم .

ويرى آخرون أنّ الصحوة فعل شارك فيه كل المسلمين في حركة تجديد كبرى انخرط فيها كلٌ بما يحسن ، العالم الشرعي بعلمه، والمفكر بفكره، والمجاهد بجهاده والتاجر بماله، وحتى الشخص العادي بدعائه وانتمائه وعاطفته .

ويجتمع هؤلاء أنّ الصحوة كانت نصراً نصر الله به الإسلام وأهله، ولهذا كانت فرصة في نظر كثيرين لتحقيق مقاصدهم ومآربهم التي يعتبر تحكيم الشريعة وإقامة دولة الخلافة على رأسها .

والذي أراه والله أعلم أنّ الصحوة لم تكن كذلك بالدرجة الأولى، نعم لا ننكر العامل البشري فيها ، لكن حقيقتها وواقعها لا تعدو كونها منعطفاً تاريخياً كسائر منعطفاته التي تحكمها سنة التدافع الربانية، فكل أدوار التاريخ تجد ارتفاعا للحق وأهله ثم ارتفاعا للباطل، كسائر الأضداد الحسية منها والمعنوية، وهذا التداول للظهور والغلبة ليس شرطا أن يسعى فيه البشر ، بل قد يقدره الله تعالى يدبر به ملكوته، ويدافع به بين الخير والشر ، بين الحق والباطل، لأن طبيعة الوجود البشري والحكمة من وجوده يحتاج إلى هذه المداولة.

سبقت هذه السنوات الصحوية ظهور الحركات الاشتراكية والإلحاد والماسونية ومذاهب الفكر الغربي من علمانية ووجودية وبراجماتية وفلسفات كثيرة اكتسحت الغرب وجاءت إلى الشرق ، فوجدت لها سوقا رائجا في وقت كان الإحباط يعتور نفوس كثير من المهزومين العرب الذين ظنوا في هذه الأفكار والحركات والأحزاب الخلاص من الهزيمة التي يعيشونها بعد سقوط الخلافة وذهاب أمجاد العرب والمسلمين وتقدم الغرب وحركات الاستعمار.

ثم استُخدِمت هذه التيارات المارقة لقلب أنظمة الحكم الملكية في غالب البلاد العربية من شرقها إلى غربها، اتهاماً لها بالرجعية والتخلف، وجاءت هذه الأنظمة العسكرية المنقلبة إلى تلك البلاد فما جلبت إلا الخراب والدمار والصراعات السياسية والعسكرية والانقلابات المتلاحقة وضياع التنمية وهزائم على يد الغرب ممثلا بدولة الاحتلال الصهيوني.

أضف إلى ذلك تراجع الحالة الاقتصادية وشيوع فكرة الحزب الواحد وتسلط رجالات معينين على تلك البلدان تسببوا في كثرة الفقر وتخلف البلاد في كل النواحي .

في هذا الجو المفعم باليأس والإحباط الشعبي كان الإسلام ممثلا في شعائره وآدابه وأحكامه وأدبياته وتاريخه هو الملاذ الوحيد للخلاص من الحالة التي يعيشها الناس.

فبرز هنا دور العلماء، علماء الشرع، والدعاة إلى الفضيلة، في الجانب التربوي وتعليم الناس وتوجيههم للعلم والحكمة الشرعية.

وفي الجانب السياسي والعسكري برزت الجماعات وقويت شوكتها ووجدت الفرصة سانحة لإعادة القوة لمشروعية وجودها عبر القضايا الإسلامية الكبرى كقضية القدس، وتسلط الاستعمار وأعوانه على الوضع في الدول الإسلامية الضعيفة والتحكم في خيراتها ونهبها أو تسليط الأنظمة الديكتاتورية ضد مخالفيهم من الإصلاحيين سواء منهم الإسلامي أو العلماني.

والحقيقة أنّ الناس أقبلوا شيئا فشيئا على الدين ورجعوا إلى الالتفاف حول أهل العلم والدعوة سواء من خلال العمل التربوي التثقيفي والتوجيهي والوعظي، أو من خلال الجماعات المنظمة التي تمارس العمل السياسي أو العسكري.

وبغض النظر عن الاختلاف بين أطياف العائدين إلى الإسلام والمتعاطفين معه إلاّ أنّهم اتفقوا على شيء لا يكاد يختلف عليه اثنان منهم، ألا وهو العداء الشديد للعلمانية كفكر وتطبيق وأشخاص وأنظمة .

فأي فكر أو شخص أو توجه يتحدث منطلقا من فكرة إقصاء الدين عن الحالة الواقعية فإنّه محل تهمة واستهداف بالإقصاء والتشهير والعزل إن لم يصل إلى الاعتداء والعنف .

ولهذا منيت المشاريع الفكرية غير المدعومة شرعيا بهزائم كبرى، شعبيا ومؤسسيا كذلك.

وعلا صراخ المناهضين للدين والشريعة وشكواهم المستمرة بانصراف الناس عنهم وإقبالهم على الدعاة والمشايخ الذين كانوا يصمونهم بالتخلف والخرافة والرجعية.

كانت نكسة بكل ما تعنيه الكلمة لكل مشاريع الغرب وعرابيه في المنطقة العربية، وسرى ذلك إلى الدول الإسلامية عبر البعثات التعليمية والعمال وغيرهم.

ثم إلى العالم الغربي ، حتى وصل الحجاب واللحية إلى عقر دار حملة الصليب في أوروربا وأمريكا واضطرت العالم الغربي إلى الاعتراف بوجود المسلمين الحقيقيين المتمسكين بتعاليم دينهم صلاة وصياما وحجابا وعفافا وغير ذلك.

بطبيعة الحال تفاوتت قوة هذا الظهور من مكان وزمان إلى مكان وزمان آخرين، لكنّ الحالة بشكل عام هي كما وصفت.

كانت الصحوة بهذا سدا منيعا عطلت بل أوقفت المشروع الحداثي الذي كان في أوج قوته وعنفوانه، مكتسحا غالب البقاع الإسلامية العربية بالذات، لأنّها آخر معاقل الإسلام في صورته الأقرب للحقيقة.

وكان رموز الحداثة واساطينها يكادون يحتفلون بالنصر ، إذ استوطنت أفكارهم ومذاهبهم بيوت المسلمين قبل مؤسساتهم وأنظمتهم .

حتى جاء المد الإسلامي معارضا ومواجها فأطاح بهم من القمة إلى القاع، وأصبحت العلمانية والحرية وقيم الوجودية والاشتراكية وغيرها تهمة وسبّة في بلاد المسلمين.

حسنا أليس هذا انتصار لقيم الإسلام وشرائعه؟

الجوابليس كذلك، على الأقل بالنسبة لمفهوم النصر والانتصار في القرآن والسنة، لأنّ النصر الرباني يأتي نتيجة عوامل وأسباب شرعية لا يتحقق بدونها، وغالب هذه العوامل لم يكن متحققا، وأهم ذلك أنّ الحالة العامة رغم صبغتها الإسلامية لكنّ غالبها لم يكن موقرا للكتاب والسنة فغلبت عليه أفكار وبدع وخروقات للكتاب والسنة، كان الواحد منها كفيلا وسببا في هزيمة المسلمين في وقائع مشهورة في التاريخ النبوي .

ولأنّ النصر الرباني لابد له من محرك رئيس أو قائد ينظم الصفوف ويقسم الأدوار ويمنع الخلاف والتنازع بين حاملي المنهج ومبلّغيه.

بينما الحالة الإسلامية الصحوية كانت مليئة بالخلافات والشقاق بين المكون الإسلامي طعنا في بعضهم البعض واتهاما ومفارقة بل واقتتالا، فكيف يكون الحال نصرا لهؤلاء؟

كانت إذن منعطفا وتحولاً تاريخيا له أسبابه وعوامله التكوينية، ليست كما يصورونه فعلاً بشرياً متعمداً ومخططاً له، وهذه الفكرة التي تشبّع بها الصحويون يظهرون قوّة الدعوة والدعاة ، وأحقية مشروعهم، أبرزها كذلك  المخالفون من دول الغرب المتربص وأذنابهم في بلاد المسلمين لأجل ضرب هذه الصحوة ومضامينها التي رأوا فيها تهديدا لمشاريع التغريب والحداثة العلمانية

والأقذر من ذلك استخدامها لإشغال الدول عن التنمية وبث الفرقة والشقاق بين الشعوب والحكام، وفيما بعد لتقويض الدول وتقسيمها عن طريق إشاعة الفوضى الخلاقة كما سمّاها الساسة الأمريكان حينها.

جاءت هذه الموجة التاريخية نتيجة الحراك والتفاعل والسنن التي صنعها الله يدفع بها شراً كان قادماً للأمّة.

وكانت السنوات تمر محققة مكاسب وقوة للشريعة في مقابل انحسار وضعف العلمانية وما طاف بها.

وهل كانت الصحوة حالة صحية أو مرضية ؟

لا يشك أحد في أنّ الدعوة الإسلامية في العقود الماضية التي سميت بالصحوة كانت قوية وزادت انتشارا واكتساحا للساحة العربية بالذات ، فهل كانت تلك حالة صحية أو مرضية، أو بينهما ؟

قبل أن نعرف جواب هذا السؤال لابد من الإجابة على سؤال آخر أكثر إلحاحا على العقل، ألا وهو : هل كانت تلك القوة والظهور الدعوي راجعة إلى الشريعة نفسها، أي قوة الحق وقوة حامليه كما في الزمن الأوّل ، أو هناك عوامل تداخلت ساعدت في قوة الدعوة وظهور أهلها.

عوامل قوة الإسلام وظهور الشريعة وأحكامها في زمن الصحوة.

الحقيقة أنّ الصحوة والدعوة بلاشك ولا ريب تحمل عنصر القوة الأكبر والأعظم ألا وهو قوة الحق الشرعي، فالحق يفرض نفسه على العقول والنفوس، خاصة إذا خلّي بينه وبين الأنفس، لأنّه فطرة الله تعالى، مهما اعتوره من نقص وتشوّه إلاّ أنّه يظل الأقرب للنفس والروح والعقل، كونه خلق الله تعالى وفطرته الّتي فطر الناس عليها .

وهذا بلاشك كان متحققا في فئام من الناس لكنّهم الأقل، وهم الصفوة التي لم تكن وحدها قادرة على إحداث كل هذا الزخم للشرع والدين والعقيدة .

بل شاركها وطغى عليها عوامل أخرى، منها على سبيل التأمل لا الحصر:

العامل السياسي : 

نشأت الصحوة في خضمّ الخصومة بين المعسكر الشرقي بقيادة السوفيت وبين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا، فيما سمي بالحرب الباردة.

وفي هذه الحرب كان كل من المعسكرين يفتعل حروبا بالوكالة عبر حلفاء معلنين أو غير معلنين، وكان كل معسكر يسعى لإضعاف الآخر بشكل غير علني في أي نزاع مسلح يؤثر فيه، كما حدث للأمريكان في فيتنام مثلا .

وفي القرن الماضي سنحت الفرصة للولايات المتحدة كي ترد الصاع للسوفييت، إذ دخلت القوات السوفييتية أفغانستان نصرة لحليفها الشيوعي هناك، وبذلك اندلعت شرارة الحرب بين السوفييت من جهة وبين المسلمين الأفغان من جهة ، وكانت المقاومة الأفغانية متشكلة من أحزاب عدة غالبها مؤدلج ومرتهن إمّا لدولة أو لجماعة، من أشهرها جماعة الإخوان المسلمين التي مثلها الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار أنذاك، إضافة إلى أحزاب أخرى وطنية، وجماعات أصغر، كجماعة القرآن والسنة بقيادة الشيخ جميل الرحمن رحمه الله.

كانت هذه الحرب فرصة سانحة لأمريكا لإلحاق هزيمة نوعية بالسوفييت وإدخال الجيش الشيوعي في حرب استنزاف طويلة ساعدت فيما بعد على مهمة تفكيك هذا الاتحاد الضخم إلى دويلات .

استخدمت أمريكا الفكر الصحوي وجماعات الصحوة وتواصلت معها عبر وسطاء وأحيانا بشكل مباشر لأجل تقديم الدعم العسكري بالسلاح والدعم الاستخباراتي كذلك .

ونشط بعض الرموز الإخوان من أجل تعبئة العالم الإسلامي كله للجهاد والمقاومة في أفغانستان، وتم تشجيع هذا من بعض الدول بشكل علني ورسمي .

وتوافد المجاهدون من كل أقطار العالم الإسلامي وتضخم العمل القتالي في كل الجبهات في أفغانستان الذي انتهى بهزيمة السوفييت وخروجهم من أفغانستان ليترك الساحة خالية إلاّ من الجماعات التي اقتتلت فيما بينها على حكم البلاد حتى جاءت حركة طالبان بدعم من باكستان ودول أخرى لتطيح بحكم كافة تلك الجماعات وتبدأ مرحلة جديدة من الصراع مع العالم كله بتبنيها للقاعدة ورموزها من ابن لادن إلى الظواهري إلى غيره .

هذا مختصر سريع وفي الوثائق والكتب مزيد عن أفغانستان والجهاد فيها.

والذي يهمنا منه أنّ غزو أفغانستان والقتال فيها أحيا فكرة الجهاد في سبيل الله وأعاد فكرة إنشاء الدولة الإسلامية من جديد، كما ساهم في إحياء الأخوة الإسلامية والعاطفة والحنين لأيام الخلافة ، كما ساهم كذلك في إحياء الأمل والوثوق بالإسلام وقوته وقيم المعية الربانية وانتصار القلة الضعيفة على الكثرة القوية لأنّ الله معها ، أضف إلى ذلك قصص وخرافات كثيرة انتشرت عن تأييد الله للمؤمنين المجاهدين بالملائكة والكرامات والخوارق .

كل هذا كان له أثر في العاطفة الإسلامية التي انتعشت وزادت في كل المسلمين على مختلف مراتبهم وطبقاتهم، حتى من كان منهم بعيدا عن التمسك بتعاليم الشرع.

وهذا بطبيعة الحال زاد من ثقة المسلم بدينه واعتزازه وقوّى من قدرته على مواجهة القوى الفكرية الأخرى التي تحاربه في بلاده سواء كانت قوى فكرية أو حتى أمنية .

كل هذا أعطى زخما ودفعا للصحوة وزاد من حماس العاملين في حقل الدعوة والتصحيح على أساس أنّ النصر في أفغانستان دليل على إيمان الفئة المؤمنة وصلاحها وصواب توجهها ومقاصدها، وكل هذا غير صحيح ولا موضوعي ألبتّة .

لنفس الأسباب التي ذكرتها في كون الصحوة برمتها ليست نصرا ربانيا ، وكيف يُعزى النصر للفئة المجاهدة وكانوا جماعات شتى يقتل بعضهم بعضا ؟

وكيف يكون نصرا من الله لجماعات وأحزاب غالبها يقاتل لأجل القومية أو الحزب أو المال ؟

وكيف يكون نصرا ربانيا لجماعات تمارس الشرك الأكبر بكافة صوره وتدافع عن القبور المعبودة من دون الله ؟

ثم يكون يكون نصرا لجيش تدعمه وتزوده بالسلاح والدعم الاستخباري زعيمة دول الغرب النصراني ؟

هذا من حيث النظرة الحقيقية، لكن الواقع أنّ أفغانستان شكلت واحدا من أهمّ أحداث الصحوة، ليس من حيث أثرها في دفع ودافعية الإقبال على التدين والانخراط في مشاريع الإسلام السياسي بالذات وتصدر رموزه وقادته للمشهد حتى بدأت أسماء هؤلاء ترتفع وتبرز وتذكر أكثر من القادة الساسيين للدول والكيانات المعترف بها دوليا.

بل وحتى من حيث كونها تحولت جامعة لمدارس شتى في الفكر الإرهابي المنتمي للإسلام زورا وضلالاً، تختلف هذه ىالمدارس في رهاناتها وارتهانها وتوجهاتها ومقاصدها وتكتيكاتها وحتى استراتيجياتها، لكنها تتفق على شيء واحد ألا وهو تكفير كل النظم العربية الحاكمة ومن يتعاون معها أو يعمل فيها واعتبار الدول الإسلامية ساحة جهاد مشروع بل مقدم على قتال الكفار الأصليين، وهذه النقطة الأخيرة وحدها كفيلة ببيان كون هذه الحركات كلها صناعة وتوجيه غربي وسنأتي على لك في مقال لاحق إن شاء الله .

العامل الاقتصادي : 

ربما لا يخطر على بال أحد أن يكون العامل الاقتصادي واحداً من أهمّ العوامل الّتي ساعدت في النموّ السريع والكاسح للصحوة بكل أدبياتها الصحيحة والخاطئة .

تشكلت في العقود الماضية سوق ضخمة عمادها وعمودها المادة الإسلامية والمحتوى الشرعي، وهذا لا أقوله أعيب به التكسب المشروع ، فكل تجمّع زماني أو مكاني يشرع فيه التجارة، كما شرع الله تعالى التجارة في الحج في قوله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}، فأنواع التجارات المباحة التي تنشأ من زخم معين ليست مذمومة بالضرورة وإنّما أنا أتحدث عن كونها عاملا مساعدا في توسع الظاهرة.

الكتب الشرعية وما يخدمها، والشريط الإسلامي بكل أنواعه من محاضرات ودروس وخطب ومواعظ وأناشيد، المطويات والرسائل والكتيبات الصغيرة، المواد التي تشكل ثقافة الصحوة من المآكل والمشارب والملابس ، وأنواع الطيب والبخور، بل حتى زينة السيارات وأثاث المنازل وإكسسوارات المكاتب والقرطاسيات وغيرها، مئات الملايين وأكثر كان يتم تدويرها ورؤوس أموال نمت وتضاعفت على حسّ الصّحوة وتغذية احتياجاتها.

بعض المحاضرات الصوتية كان يباع منها الملايين من الأشرطة، ومثل ذلك بعض الكتيبات، وفي المواسم الدينية كرمضان أو الحج يتسابق التجار إلى التبرع بملايين النسخ من الأشرطة والمطبوعات التي يستفيد بسببها مؤسسات نشر ومطابع ودور الإنتاج المسموع وغيرها.

حدثني أحد طلبة العلم أنّه ضمّه عشاء مع أحد محققي الكتب من بلاد عربية، فتجاذبا الحديث عن النشر والكتب فحثه هذا الأخير على أن يجتهد في النشر ، وقال له اجتهد في أن تصنع لك اسماً ثم لا يهم بعد ذلك من خالفك أو ماذا تنشر .

وهذا واقع حقيقي ، إذ أصبح التاجر يبحث عن اسم يطبع له ولا يبحث عن مادة جيدة، ولهذا انتشرت الكتب الرديئة في المحتوى أو المتدنية في المادة أو السخيفة والتافهة أو المكررة أو المجمعة التي لا علم فيها ولا جديد، ولكن القيمة ليست في المضمون وإنّما لأنّ المؤلف القدير وقد يكون سارقا كان قد اجتهد في أن يصنع لنفسه اسما في عالم الصحوة ويكون مقصدا للتجار، حتى أصبح يؤلف بناء على طلب التاجر، لا انطلاقا من حاجة علمية أو غيرها.

وقل مثل ذلك في كل المنتجات الأخرى .

أمّا قنوات التبرعات والمؤسسات والجمعيات الخيرية وما يتحصل بسبب ذلك في جيوب وحسابات معينة من الملايين بغض النظر عن كونها تصرف في وجوهها الحقيقية أو تسرق أو تجير لصالح جهات معادية وجماعات إرهابية ، المهم أنّ هذا التدفق المالي وهو ضخم للغاية شارك فيه حتى ربات الخدور شكّل أيضا عاملا دافعا للصحوة وانتشار رقعتها ومساحة تأثيرها ومجال جذبها.

وبطبيعة الحال فكل مستفيد من هذه السوق وراجت له فيها بضاعة أو توفر له باب كسب مشروع أو غير مشروع فإنّه سيدافع عنه ويساعد في نموّه ويسعى في بقائه بكلّ سبيل.

العامل الاجتماعي : 

شكلت الصحوة بما تحويه من أدبيات الإسلام وأخلاقه ونظامه الاجتماعي خلاصا وملاذا لكل مطحون اجتماعياً إمّا بسبب الفقر أو شيوع الطبقية والعنصرية والفخر الجاهلي بالأحساب والأنساب والأجناس والأوطان كذلك.

وجد جمهور عريض من المقبلين على محاضن الصحوة مكاسب اجتماعية وإحساسا بالقيمة والذات كانت مفقودة أو ضعيفة في ظل أوضاع اجتماعية سيئة متفاوتة في السوء من مكان لآخر .

كثير من الناشئة التي لم تجد لها موقعا في مجتمعاتها وجدت في الصحوة القيمة والتقدير للذات ومشاعر الإحساس بالعزة والاستقلالية، وكثير من ذلك كان شعورا خادعاً لا من حيث صدقه ولا من حيث أثره وما يضيفه للشخص، وذلك أنّ البيئات التي اعتقد الناشئة أنّها بيئات الأخوة الإسلامية الصادقة كانت الطبقية تنخر فيها والنظرة الاستعلائية موجودة لكن متسترة أو متخذة شكلا شرعيا، وكلنا نعرف ما يظنه أصحاب مناطق جغرافية معينة من أحقيتهم بتمثيل الإسلام والشريعة والعقيدة أكثر من غيرهم.

ورأينا كم يشيع احتكار الوظائف الشرعية والمناصب الشرفية لأجناس معينة واحتقار من لا ينتسب إليها .

وكم شهدنا كيف إنّهم يعاملون غيرهم كما يعامل الموالي.

وبنحو هذه الطبقية الجغرافية كانت هناك طبقيات فئوية، فجماعة تستعلي على الجماعات الأخرى وتراها دونها في الرتبة، ومجتمع كذلك عن مجتمع، وجنسيات معينة على جنسيات أخرى.

ويمارس الكثير من رموز الصحوة خداع الأخوّة والمساواة من خلال الخطاب الجماهيري التعبوي فقط، لكن عند المماسة مع هؤلاء وجدنا العجب العجاب، وهذا شيء أحكيه عن مشاهداتي الخاصة لا أنقله عن الغير، مع أنّه شائع ذائع يعرفه من اقترب من هؤلاء الصحويين ويراه عيانا.

 وعلى العموم فإنّ الفراغ المجتمعي الذي كان يسود كثيرا من البلاد الإسلامية لأسباب اقتصادية وثقافية -ليس هذا محل سردها- لم يجد الناس من يملأه أو يعوض عنه إلا الحراك الصحوي، الذي انخرط في تجميع المتفرق، وتشكيل الكيانات التي تساعد الناس وتمد يد الخير إليهم بالتبرعات أو علاج الحالات التي يعجز عن حلها إلاّ المشايخ ! بخطابهم الوعظي وهذا حقيقي يخاطب فطرة الناس وحبهم للخير ولرضا الله تعالى لكنه كذلك كان مساحة لبناء علاقات اجتماعية وتسويات شعبية مع المجتمعات سهلت للصحوة اختراقها والتغلغل في كل بيت وكل تجمّع بشري .

العامل النفسي : 

وهذا العامل لعله اقوى وأكثر العوامل تأثيرا في انتشار الصحوة لأنّه يعتمد بشكل كبير على البشرية، أي على الأفراد أنفسهم، إذ إنّ الصحوة بأدبياتها المغلوطة واختلاط المفاهيم فيها أصبحت ساحة يسهل فيها البروز وتحقيق المكاسب الشخصية من الشهرة والرياسة والمال والمناصب، دون أن تحتاج في ذلك إلى أكثر من أن تتقن مهارة من مهارات التديّن.

نعم ، أصبح التديّن مهارات متنوّعة إذا استطعت إتقان أحدها تحققت لك وفي زمن يسير وجهد مقارب مكاسب تحتاج في بيئات غيرها إلى مجهود وزمن كبيرين هذا إذا تحققت لك الفرصة.

من الصعب أن تشق طريقك بين العلماء أو المثقفين الكبار أو التقنيين أو التجار أو السياسيين ونحوهم من وجوه المجتمع وقادته ومشاهيره .

لكن في ظل زمان الصحوة يمكن أن تصبح حديث الشرق والغرب متصدرا المجالس ومحققا أعلى المناصب وحاصلا على الأموال كذلك، يكفي أن تكون قارئا للقرآن مجودا حسن الصوت لتكسب ذلك .

وإذا لم يهبك الله الصوت الحسن فيمكن أن تتقن أدوات الخطابة فتكون خطيبا يجتمع حولك الخلق بالآلاف المؤلفة.

ويمكن كذلك أن تكون منشدا مشهورا، أو محاضرا واعظا قصاصاً فتطبع لك ملايين النسخ، وتصبح أشهر من نار على علم.

كثيرون تولوا وظائف ومناصب وأوكلت إليهم مهام شرعية أو دنيوية أو دعوية فقط لأنّ الله وهبهم سمتا حسنا وجمالا وبهاء ، أو لأنّه صاحب صلاة وصوم وتعبّد، أو لأنّه صاحب أمر ونهي وشجاعة في في المواقف، وقل مثل ذلك في المقاتلين ورموز الجماعات الحزبية .

ولأن المجتمع لم يكن في مستوى من الوعي لتمييز العالم من غيره أو يستطيع أن يضع كل شخص في مكانه وقدره الحقيقي كما قالت عائشة رضي الله عنها:" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم".

فكم حرم من الأكفاء والمهرة والمتقنين من وظائف أو مناصب أو مواقع أو أموال فقط لأنّهم لا ينتمون إلى تيار التديّن، أو لا يظهر عليه سيما التدين، وإن كان متدينا فيكون الإقصاء كذلك بناء على الانتماء الفكري والفئوي.

وليت البديل يكون مثله إذا لقلنا تقديم صاحب الحسنتين ، لكنا رأينا المناصب والأماكن يتولاها جاهل أو عديم النفع بل وسارق أحيانا فقط لأنّه ملتح أو تقيّ صاحب عبادة أو لأنّه منتسب للشيخ الفلاني أو لأنه منتم للجماعة والحزب .

وبهذا أصبحت الصحوة عند كثيرين جدا هي مساحة العمل التي يجدون فيها أنفسهم ، ولهذا دافعوا ويدافعون عنها بكل ما أوتوا، لأنّ هذه المساحة إذا أغلقت أو انتهت انتهت معها أمجادهم وامتيازاتهم .

إذن، وَعَوداعلى ذي بدء، هل كانت الصحوة حالة صحية ؟

الحقيقة أنّها لم تكن كذلك ، لا أتحدث عمّا هو داخل الجيل الصحوي من خلافات وتناقضات ومخالفات ، إنّما أعني الحالة برمّتها ، لأنّ هذا الذي حصل كان أشبه بالتضخّم الاقتصادي، كثرة العملة دون قيمة شرائية تناسبها .

وهذا ما حصل في الحالة الصحوية، كثرة لا يقابلها تزكية، وإقبال لا قدرة للعلماء الحقيقيين ولا لغيرهم على استيعابه، أعني استيعابه في محاضن تربوية حقيقية، تسوقه كله في مساقه الصحيح شرعا ونظاماً.

وهذا أدّى إلى نشوء تدين مغلوط أكثره خطورة ذلك الذي انحرف للغلوّ وذهب يبحث عن قنوات ومصارف لعاطفة عمياء فاقدة للبصيرة فكانوا أكثر حطب الفتن في كل بلاد تثور فيها الفتنة يسمونها جهادا، أو أكثر رؤوس الفتن والقلاقل وإفساد حياة الناس والافتئات على الأمّة كلها .

وأدّى كذلك إلى نشوء الخلاف العريض بين المقبلين أنفسهم الذين انخرط كل منهم في اتجاه دعوي أو تديني يتناسب غالبا مع طبيعته وتكوينه النفسي أو بسبب الإعجاب بشخصية معينة أو نتيجة تضليل فكري أو غير ذلك، وضاعت سنوات طويلة من عمر الصحوة في حوارات وجدل ونقاش وعداوة وصلت إلى العدوان على الأنفس والأموال .

إن فكرة الإستيعاب هذه التي ذكرتها ليست بدعة ولا غريبة، وسأذكر لك واقعتين تدلان عل ذلك .

الأولى :

حديث عمرو بن عبسة قال : كنت، وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة. وأنهم ليسوا على شيء. وهم يعبدون الأوثان. فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا. فقعدت على راحلتي. فقدمت عليه. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا، جرءاء عليه قومه. فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة. فقلت له: ما أنت؟ قال "أنا نبي" فقلت: وما نبي؟ قال "أرسلني الله" فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء" قلت له: فمن معك على هذا؟ قال "حر وعبد" -قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به- فقلت: إني متبعك. قال "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا. ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك. فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني..» الحديث، وهو في صحيح مسلم.

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل انضمام عمرو وأجّله إلى أن يظهر أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمعنى أنّ يكون في حال يمكنه معه استيعابه في منظومة الدعوة وأتباعها .

والأخرى :

ما جاء عن ابن عباس قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا، فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة، قال: فزبرني عمر ثم قال: مه، قال: فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة، فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه، قال: فرجعت إلى منزلي، فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، وما هو إلا الذي تقبلني به عمر، قال: فبينا أنا على ذلك أتاني رجل، فقال: أجب أمير المؤمنين، قال: خرجت فإذا هو قائم ينتظرني، قال: فأخذ بيدي ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، إن كنت أسأت، فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت، قال: لتحدثني بالذي كرهت مما قال الرجل، فقلت: يا أمير المؤمنين متى ما تسارعوا هذه المسارعة يحيفوا، ومتى ما يحيفوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال عمر: لله أبوك، لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها. رواه عبدالرزاق في المصنف.

لاحظ أنّ عمر رضي الله عنه لم يبن على ذلك منعهم من حفظ القرآن، لأنّ هذا أمر مشروع لا يمكن لأحد أن يمنع منه مسلما، لكن حين يكون هذا في الناس دون أن يكون لهم ما يوازي هذه الكثرة من حيث الاستيعاب تربية وتعليما فهذا سيؤدي إلى نتائج غير محمودة ذكرها ابن عباس، وهذا ناتج عن خلل سبق ولا يمكن إيقافه إلا بالترشيد لا بالمنع.

ومثل هذا الكلام سيغضب البعض لأنّه يشبه معاذير المناهضين للشريعة الذين يقلقهم نشأة جيل يحب الله ورسوله ودينه ويتمسك بقيمه.

لكن هذا لا يهمنا لأنّنا ننطلق من منهج سلفي سبقنا فيه عمر وابن عباس .

نعود الآن إلى الصحوة ونقارن هذا بما حصل نجد الأمر كذلك، لقد لجأ الصحويون إلى إنشاء ما يستطيعون من حواضن لاستقبال الصغار والكبار المقبل على الله ولأنّه أيسر وأفضل وأقل المناشط كلفة وبعدا كذلك عن الشبهة فقد كان حفظ القرآن ودُوره هي المستوعب الأوّل والأكثر انتشارا، ثم بعد ذلك جاءت المحاضرات التي برع فيها خطباء الصحوة وشعراؤها وحتى علماؤها فأثر ذلك تأثيرا كبيرا في بيئات كانت متعطشة للجانب الروحي من جهة، وكانت تجد في التدين والعودة للإسلام عزاء عن واقع مرير سواء في الجانب السياسي والهزائم العسكرية، أو الظلم المنصب على المسلمين في بلاد كثيرة كفلسطين والهند وأفغانستان وغيرها.

أو الجانب الاقتصادي الذي شكل التديّن وأدبياته مسكنات وملاجئ للتصبّر على الفقر وقلة ذات اليد .

اعتمدت استراتيجيات الجماعات والتيارات على عوامل كسب الأشخاص والتكاثر بهم   أو تحقيق الانتصارات العسكرية والسياسية ، وكل هذا بدون تربية لا حقيقة له ولا واقع، بل فقاعة صابون كما قال الألباني مرة .

وبالفعل كان الإقبال على الدين والرجوع إليه كبيرا أكبر من قدرة أولئك الذين دعوا إليه بل دعني أقول إنّ ذلك لم يكن منهم على بال لأنّ الأهم كان عودة الجماهير إلى الله وهذا مقصد نبيل بلاشكّ .

ولم يكن ذلك بالضرورة نتيجة جهود الصحويين فقط بل كما قالت إنه بسبب تظافر عوامل أخرى كانت المسبب الرئيس، فالشرارة التي تسبب الانفجار ليست هي التي تصنعته.

كان الأمر أشبه بمن يصطاد في بحر مليء بالسمك لا يحتاج إلى احتراف الصيد والمهارة لكثرة السمك، وكذلك كان الأمر  لكثرة المتعبين والمتعطشين والمكلومين والفارغين جاءت الدعوة إبان الصحة لتكون البديل الأوفر حظاً يساعدها على ذلك كما قلت قربها ومضامينها الشرعية .

لكن هذه الجماهير التي شُحنت بعاطفة جياشة وخاصة الشباب والفتيان منهم لم يجدوا لها متنفسا ، فكان الموقف صعبا دون أن يشعر أحد بصعوبته.

وكان أكبر مستفيد من الكثرة العمياء هي الجماعات  المنظمة التي اصطفت من استطاعت من هؤلاء المقبلين على الدين في برامجها ونظمتهم في سلكها لتنفذ بهم أجندات معدة سلفا، إمّا مشاريع سياسية أو جهادية عسكرية أو غير ذلك.

وأمّا البقية فانخرطوا في مشاريعهم الفردية من طلب علم أو عمل أو غير ذلك لكن مع وَلَاء لاتجاهات يرون فيها التمثيل الكامل أو الأقرب للإسلام .

وكان الصوت الأضعف في كل هذا هو صوت العلم السلفي الحقيقي المتّزن بميزان الكتاب والسنة وفهم أئمة السلف للدين ولآليات الصراع مع الباطل والتعامل معه وكذلك وظيفة أهل الإيمان في مجتمعاتهم وكيفية التوفيق بين واجباتهم تجاه دينهم وبين استحقاقات المواطنة والمجتمع بكل فئاته ومكوناته.

ولهذا لا عجب أن رأينا انتكاسات تحصل داخل الصحوة ومكوناتها قبل أن يُنسب فشلها إلى خصومها ، لأنّ الجسد المريض في باطنه لابد أن يأتي اليوم الذي ينهار فيه وتبدوا عليه آثار المرض الباطن وآثار الخلل في التركيب.

والله يعلم كم تحدثنا عن هذه الأمور في مجالس وفي مقالات ولكن لكلّ أجل كتاب .

وعلى العموم فإنّ هذا الذي قلناه على مافيه من خلل كان مع ذلك تقديرا ربانيا كما قلنا أولاً وكان خاضعا لسنن كونية ذكرها الله تعالى : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرضفمن سنة الله أن الأسباب والنتائج التاريخية تتفاعل كما تتفاعل المواد الكيميائية وتساعدها عوامل فيزيائية وكل ذلك يعطي نتائج تعيد التوازن في حدّه الذي يحفظ الأرض من الفساد المطلق الذي يؤذن بزوال الدنيا .

فالإغراق في جانب العلمانية والجفاف الروحي الذي نتج عن حرب الغرب على الدين والتدين بشكل عام إضافة إلى طغيان المادية على الحياة المعاصرة كان ذلك سببا في ردة الفعل هذه وساعد عليها كما قلنا وجود الدعاة والعلماء والجماعات والأحزاب الإسلامية .

ومثل ذلك يقال في النومة التي تلي الصحوة الآن فليست انتصاراً ليبرالياً كما يتصوّر البعض أو أنّها جاءت نتيجة جهود التنوير والحداثة، أبداً،  فالذي يحصل الآن أيضا ردة فعل على ممارسة الدين وطرحه للناس بشكل غير الشكل الحقيقي،  في مجالات عديدة، استغلالا للقوة المتوهمة التي اغترّ بها الصحويون والتي ترتكز على أسباب غير حقيقية كما قربنا الصورة آنفا.

ولهذا فما نراه اليوم هو استجابة طبيعية للشهوات والرغبات فقط من جمهور كبير غالبه فتيان صغار، وليس انتصارا لمشروع الحداثة ورموزه، ولو رجع الأمر   بالناس إلى الوراء سيتكرر الأمر وإن كان بصورة مختلفة لكن السنّة واحدة، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وكل ما يحصل في النهاية تدبير رب العالمين مهما يكن ظاهره من الشر ففي طياته الخير حقا وصدقا كما قال تعالى في مناسبة أخرى : {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم } .

 

Powered by Froala Editor