الموقع الرسمي للدكتور أحمد بن صالح الزهرانى

فَضْلة !

* حمل المقال بصيغة (pdf) من هنا

تأمل الصورة جيدا .. وسل نفسك : لو أضافك شخص على مثل هذه البقايا مع قدرته على خير منها هل تقبل نفسك هذا أم تعده نوعا من الإهانة ؟

مما تسمعه في مجالس بعض الدعاة وكثير من طلبة العلم التوجع الدائم من حال الدعوة والتديّن وضعف التمسك وانتشار الباطل .. الخ .

والسبب دائما في تصويرهم إما الحكومات المعادية للإسلام – زعموا- أو فجور المجتمعات وربما كفرها عند بعضهم، وإما تسلط دول الكفر والصليب واليهود .. الخ .

وقلما تسمع من أحدهم لوما لنفسه أو لحزبه وجماعته على التسبب في حالة النكوص عن أحكام الشريعة التي نشاهدها في كثير من بقاع العالم الإسلامي اليوم ﴿ وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمّارة السوء﴾.

أحببت -لأمر ورد على خاطري- أن أعيد كتابة مقال كتبته قديمة قبل أكثر من عشرين عاما ولم أجده للأسف في جهازي ولا في شبكة الإنترنت .

يقول الله تعالى : ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ وهذا وعد من الله لا يتخلف أبداً إلا إذا تخلف شرطه .

﴿إن تنصروا الله﴾ هذا هو الشرط، ويمكن معرفة أثر هذا الشرط في تحقيق نتيجته من خلال سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ومن تبعهم من أئمة الدين والسنّة .

فالذي ميز أولئك القوم أنّهم أعطوا ربّهم ونبيّه ودينه كل ما يملكون : أنفسهم، أولادهم، أزواجهم، أموالهم، حياتهم وموتهم ، واستبْقَوا من ذلك كله ما يقيم أودهم يقطعون به هذه الدنيا ، كما صور الله تعالى ذلمك في قوله: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77].

جعلوا الكل لله، والفضلة لهم ولدنياهم .

ماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ تقول عائشة : «خرج أبو بكر من ماله ثلاث مرات» أي أنه تبرع بكل ما يملك عدة مرات .

وماذا فعل عمر، وعلي، وعثمان، وبلال، وصهيب، ومصعب، والسعدان، وبقية الأنصار ؟ خرجوا من كل شيء ووهبوه لله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111] .

أمّا نحن فعكسنا الآية ، فجعلنا لله ولدينه ونبيّه الفضلة من أوقاتنا، وأموالنا، وأعمالنا .

ليس العبرة بحجم ما تبذله لله ولدينه، بل العبرة كم يمثّل هذا الذي بذلته مما تملك؟ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبق درهم مائة ألف درهم» قالوا: وكيف؟ قال: «كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها».

ومن أسمائه تعالى : العزيز ، والكريم، ومن أوصاف كتابه أنه كتاب عزيز وكريم، ونبيّه عزيز كريم حرُم عليه أن يأكل من مال الصدقة ولو كان أطيب وأحسن طعام .

أتراه تعالى يرضى منّي ومنك الفضلة من ذلك ؟ لا والله، حتى نقدّم له ولدينه وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلّم أحسن وأفضل ما نملك من مال ووقت وجهد، ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] .

ومن كرمه وعزته تعالى أنه لا يرضى بالشريك فقال: «أَنَا ‌أَغْنَى ‌الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» فإذا كان لا يرضى الشرك مع العدل فكيف يصح أن يرضى منا بالفضلة ؟ وإن كانت الأولى شركا والثانية ليست شركا في عرف الشرع لكن فيها من سوء الأدب مع الله مافيه .

ولهذا لا نُنصر ، ولا نُمكّن ولو بعد ألف عام ، لأن مفهومنا لشرطية ﴿إن تنصروا الله﴾ فهم ضعيف مغلوط، فهذا اللفظ اسم عام لا يستحق به العامل أجرته وهو نصر الله له إلا أن يستوفيه بكل ما يستطيع ولا يستبقي مما يملك أو يقدر شيئاً، كما قال تعالى : ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: 60] . 

نريد أن نعطي الفضلة والأردء والأسوء ثم نطلب من الله الأجمل والأحسن والأقوى .. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ [البقرة: 267] .

ومما يجرّ الحال قولَه هنا أنّنا في أمور دنيانا لا نرتضي إلا بالأجود والأحسن من العاملين سواء في الوظائف أو العمالة المستأجرة أو في المواد المستعملة ونبذل فيها الغالي من الوقت والمال .

وإذا جئنا إلى وظائف الآخرة من علم وتعليم أو دعوة أو مناصب شرعية في قضاء أو إمامة وخطابة ودعوة وغيرها فلا يهم حينها من يتسنّم ويتصدّر ..

نجامل على حساب دين الله وشريعته وعلوم الشريعة الأصحاب والأقارب والمعارف على سبيل مصلحة الدعوة والعلم والمنصب الشرعي .

ولهذا امتلأت مناصب الشريعة ومنابر العلم بالعوام .

فهل تُنصر الدعوة بهذا ؟

أبو ذر الذي ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، من رجل ‌أصدق ‌لهجة منه كما قال صلى الله عليه وسلّم ، ومع ذلك يقول : «قلت: يا رسول الله، استعمِلْني، قال: «يا ‌أبا ‌ذر، إنك ‌ضعيف، وإنها أمانة».

أما بعض فضلائنا فجعلوا من مناصب الشريعة علما وتعليما ودعوة ساحة للمجاملات والعلاقات العامة ، يقدّمون التزكيات لمن لا يستحقّ ويجاملون على حساب دينهم من لا يستحق وسوف ينبئهم الله يوم القيامة بما كانوا يصنعون .

في السير للذهبي أن ‌عمر بن الخطاب قال لأصحابه: ‌تمنَّوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا ‌البيت دراهم فأنفقه في سبيل الله، فقال ‌عمر: ‌تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا ‌البيت ذهبا فأنفقه في سبيل الله، فقال: ‌تمنوا، فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا ‌البيت جواهر ونحوه فأنفقه في سبيل الله، فقال ‌عمر: ‌تمنوا، فقالوا: ما نتمنى بعد هذا؟ فقال ‌عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا ‌البيت رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة ابن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله».

هذا صنيع من نصرهم الله وزلزل تحت أقدامهم عروش فارس والروم بأقلّ عدد من الرجال، وهذا صنيع عمر ، رغم أنّ المدينة بها خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ومع ذلك فلكل مقام مقال، ولكل منصب رجال .

وعندما نأتي لطلبة العلم بالذات، تجد الكثير منهم لا ينفق في سبيل تحصيله وإتقانه والبحث فيه والتفتيش عنه وطلبه من مظانه ومناقشة الإخوان والأقران وسؤال العلماء والسابقين في العلم كل هذا لا يجد عندهم وقتا له إلا سويعات وإذا قضاها يقضيها كنوع من التسلية لا يفكر بقضية الإتقان والتجويد للعلم جُهْدَه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .

لكن مهاراته وقدراته وأمواله وأوقاته تخرج في غير ذلك، من دنياه، أو من أعمال ظاهرها أنها لله وللآخرة وباطنها أنّها تكملة فراغ ، بدليل أنّها إما ليست على السنة أو أنّها من فضول العمل ، والعبد الحقيقي الذي يعمل لله ولدينه لا يعمل على هواه وإنما يبحث عن الإتقان والفرْض ويقدم الأهم على المهم ، فلا يصرف طالب العلم وقته على الحفلات والأناشيد والكلمات وتطويف البلاد للدعوة كما يظن ولا يصرف للعلم من الوقت أكثر منه ، فهذا نوع من الهوى وإن لم يشعر ، ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ [هود: 112] لا كما تحب وتهوى.  

وهكذا تمضي أحوالنا في انحدار ، نفتش لأنفسنا ودنيانا ونختار خير ما نجد، ونبقي لآخرتنا ولديننا أردء ما نجد، ننفق في سبيل دنيانا كل أعمارنا وأموالنا ونستبقي لديننا ولآخرتنا ما فضل عن ذلك مما لا نجد ما يملؤه إلا شيء من عمل الآخرة نتزين به أمام أنفسنا وأمام الآخرين، ونُسْكِت به بعض توجّع نحسّه في داخلنا يلومنا على تقصيرنا فنُسكته بهذا الفتات الذي جعلناه لدين الله وشريعته .

والله المستعان .






Powered by Froala Editor